معالي الشيخ د.صالح بن حميد
بسم الله الرحمن الرحيم
معالي الشيخ الدكتور / صالح بن عبدالله بن حميد
إمام وخطيب المسجد الحرام ورئيس مجلس الشورى
نشرت بالمجلة العربية عام 1424هـ
الحمد لله هدم بالموت مشيد الأعمار، وجعله راحةً لعباده الأبرار، ينقلهم به من دار المتاع إلى دار القرار، له الحكمة البالغة في تصريف الأقدار، سبحانه لا إله إلا هو قدر الآجال بعلمه، وأجراها بحكمته، يقول عزَّ شأنه «وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير» ويقول سبحانه « لاإله إلا هو يحي ويميت وربكم ورب آبائكم الأولين» وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وهو الحكيم العليم، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، المصاب بعده جلل، وبموته عليه السلام يتعزى كل مصاب، وفي التنزيل العزيز «وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون» صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الأطهار، وأصحابه الأئمة الأبرار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ومن على نهجهم سار.
أما بعد:
فإن أهل العلم أمناء الله في خلقه والواسطة بين الرسول وأمته، هيأهم الله لحفظ ملته، الكتاب عدتهم، والسنة حجتهم، والرسول فئتهم، وإلى الدين نسبتهم، لا يعرجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى المختلف من الآراء، هم المأمونون العدول، حفظة الدين وخزنته وأوعية العلم وحماته، إذا ادلهمت الأمور فإليهم -بعد الله- الرجوع، وما حكموا به فهو المقبول والمسموع، هم المحدث النبيه، والعالم الفقيه، و القارئ المتقن، والخطيب المحسن، والواعظ الصالح، والداعية الناصح، قبلوا شريعة المصطفى قولاً وفعلاً، وحرسوا سنته حفظًا ونقلاً، ثبتوها فرعًا وأصلاً، فكانوا أحق بها، وكانوا لها أهلا، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وهم الحفاظ لأركانه، والقوامون بأمره وشأنه، لهم أرفع مكانة، وأجل مرتبة، بهم بإذن الله تنقشع الظلمات، وتندفع الشبهات، وتنعم البلاد، وتهدى العباد، يستظهرون المتون، ويجيدون الفنون، ويقومون لله قلبًا وقالبًا، واعتمادًا وعملاً، اختصهم ربهم، فعلمهم الكتاب والحكمة، وفقههم في الدين، وفضلهم على سائر المؤمنين، رفعهم بالعلم، وزينهم بالحلم، بهم يعرف الحلال والحرام، والحق والباطل، والسنة والبدعة، فهم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، بهم بإذن الله تحيا قلوب مريدي الحق والهدى، وتموت قلوب أهل الزيغ والهوى، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، هم في الأرض كنجوم السماء، تهدي في ظلمات البر والبحر، هم ورثة الأنبياء، تقوم بهم على الناس الحجة، فقهاء الدين، ودعاة الأمة، وأعلام الملة، يحيون من معالم الدين ما اندرس، ويوضحون للناس ما التبس، أنوارهم باهرة، وفضائلهم زاهرة، هم الموقعون عن رب العالمين، المتمسكون بسنن المرسلين.
أيها الناظر الكريم: إن هذا التذكير بأهل العلم، وإيراد الشذرات من فضلهم، والتنبيه إلى علو مقامهم، وعظيم أثرهم، لما تعيشه الأمة في أزمنتها المتأخرة، من مصائب تكالبت فيها عليها الأمم، وتداعت عليها النكبات، وانتقصت من أطرافها، وديست مهابتها، ولئن كانت هذه المصائب تتفاوت وتختلف شدة وقوة، وسعة وكثرة، ولكن من الملفت في هذا الخطب المدلهم تهاوي كواكب من أهل العلم.
نعم لقد ابتلينا بفقد جملة من علمائنا الربانيين، كانوا مصابيح دجى، وشموس هدى، يستأنس بهم في الوحشة، ويستضاء بهم في الظلمة، غيابهم نكبة، وموتهم مصيبة، فلا حول ولا قوة إلا بالله. ([1])
والله إنه ليخشى على الأحياء بعدهم من الفتنة، (اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم).
كم فات من الخير بوفاتهم، وكم من حسرة على فراقهم، وإذا كنا نتحدث عن مصائب الأمة، وعن عظيم الأسى بفقد علمائنا وأئمتنا، فإن من حق الأمة وحق الخلف من بعدهم، أن يحفظوا لهم حقهم، وأن يسيروا على الصالح من أثرهم وهديهم.
فإن من علامة الخير للأمة بعامة، وللخلف بخاصة، أن يلتفوا حول علمائهم، وأنه من خير المقاصد بعد وفاتهم؛ حفظ حقهم، والحفاظ على تراثهم، وإبراز المضيء من حياتهم، ليبرز المثل، وتتحقق القدوة؛ لأن دراسة سير العلماء، وإبراز محاسنهم في غير غلوٍ ولا غمطٍ هو الدرس المهم، والغاية المطلوبة، فبرهان المحبة الحقة الاتباع على الحق، ونحسب أن هذه القلة من أهل العلم والفضل الذين اخترمتهم المنية في فترة زمنية متقاربة من العلماء الربانيين، من ورثة الأنبياء، أعلامًا يقتدى بهم، وعلماء يقتفى أثرهم، وتبرز مآثرهم، ولا نزكي على الله أحدًا، فهو سبحانه أعلم بمن اتقى.
ولقد انضم إلى هذه الكوكبة العالم الشاب , الحافظ , الفقيه , الشيخ , الإمام , أبو أنس عمر بن محمد السبيل - رحمه الله رحمة واسعة– فلله الحكمة البالغة في أن تخترم المنية هذا العالم الشاب ليلحق بهذا الركب من الشيوخ.
إن الرزء بفقد الشيخ لعظيم , والمصاب به لجلل , فلله كم عطفت له القلوب، ووضع له من القبول.
إن المكانة التي اكتسبها الشيخ - رحمه الله وأسكنه فسيح جناته- في قلوب الناس من دلائل فضله وإخلاصه، وحسن صلته بربه إن شاء الله.
لقد شرف الله منزلته، وأعلى مكانته، وتربع على عرش القلوب، والتف الناس حوله، لما وضع الله له من القبول، لم يزدوج في شخصيته، فأحبه الجميع، وبرز في فاعلية التلقائية وعمق البساطة مما كان له دور كبير في تكوين رصيد وجداني في زرع الثقة لدى محبيه.
لقد كان يتمتع ’ بتواضع جم، قل نظيره في نظرائه من طلبة العلم، لا يعرف عنه التعالي، كان ذا نفسية أريحية، وطباع كريمة، ونموذجًا لأصناف من الخير كثيرة، معلمًا في المنهج والسيرة، يؤمه العلماء، ويحدثه البسطاء، للفقراء عنده مكانة، وللغرباء لديه منزلة، كريمًا في قوله، نديًا في عطائه وبذله، ومع هذا التواضع والبذل في النفس والجاه والمال، فقد كانت له هيبة لا تخفى، لم يتطلع إلى مناصب، ولم يمتنع عن الناس بحاجب، يعالج الأمور بحكمة وحسن بيان، وقوة إقناع، صريح في لباقة، طيب في حزم، ناصح في أدب.
لقد كان أنموذجًا لعالم شامخ، تسنم ذروة في الرجال في صغر سنٍّ، وعلا قمة في الأفذاذ في قصر مدة، طويل الباع، واسع الاطلاع، علمه مقرون بحسن التدين والورع والعفة، وحسبك بعالم ورع عفيف.
عاش حياةً حافلة بالخير، حياة علمية دعوية متوازنة، يرتبط فيها العلم بالعمل، ويقترن فيها الفقه بالخلق.
لقد كان داعيةً موفقًا، كما كان مشاركًا فيما يفيد؛ من مؤتمرات علمية، ومجامع فقهية، وحلقات فكرية، ومنابر وعظية، وندوات بحثية، له حضور متميز في الدعوة والعلم والفقه والبحث العلمي والنظر في قضايا المسلمين وفي مشكلاتهم ونكباتهم، وفي مخالفاتهم وبدعهم، فكان ذا قلم إذا كتب، وموجزًا إذا خطب، بناءً إذا نقد، حكيمًا إذا أرشد، إذا تحدث أفصح، وإذا شرح أوضح، فلله در الشيخ كم أجاد وأفاد، وكشف عن دقائق في الفقه، وأخرج ونبه إلى قواعد مثلى في الاستنباط.
عرف الشيخ ’ منذ صغره بالصلاح وحب العلم، وحسن العبادة، والمداومة عليها، والبعد عن المظاهر، تعلوه مهابة، ويلازمه وقار، لا يدخل فيما لا يعنيه.
دؤوب في طلب العلم وتحصيله، مشارك في كثير من فنونه، له تميز في الفقه وقواعده وأصوله، وله بروز في علم العربية وآدابها، وعلم الأنساب، والمعرفة بالقبائل، وأصول الأسر والعائلات.
ولعل مما يفيد المطلع الوقوف عند بعض الصفات البارزة التي كان يتميز بها الشيخ ’ فمن ذلك:
1- حسن السمت: ويراد به عند أهل العلم والأدب والحكمة: تناسق المظهر الخارجي للإنسان من طريقة الحديث، ومواطن الصمت، والحركة والسكون، بحيث يدرك الناظر التوازن والانسجام في كل ما يصدر عن هذه الشخصية، فينسب صاحبها لأهل العقل والحكمة والصلاح، وحسن السمت يكسب صاحبه الاحترام والهيبة والوقار والقبول، ويدل على رجاحة العقل.
ومن اليسير أن تجد من يظهر عليه حسن السمت في زمن الاعتدال، ولكن كثيرًا ما يخرج المرء عن حد الاعتدال إذا زاد الفرح أو أقبل الهم واشتد، فإنما الصبر عند الصدمة الأولى، ولا يتبين الرجال إلا في أوقات الفتن والشدائد.
والمؤمن العاقل لا يحب الفتن ولا يتمناها، ولكن يسأل الله الثبات، وألا يزيغ القلوب بعد إذ هداها، وأحسب الشيخ ’ كان من أوفر الناس عقلاً، وأكثرهم اتزانًا، وأقواهم إرادةً، فهو ممن يظهر فيه حسن السمت والتوازن والاعتدال في أقرب كمالاته.
2- الفطنة: وهي حسن التنبه لكل ما يعرض، كما أنها استعداد تام لإدراك العلوم بالفكر والتأمل، ويتجلى ذلك في ملاحظة لفظ المخاطب، وإدراك الغرض من خطابه.
والفطنة تنقذ صاحبها من المواقف الحرجة، وهذه خصله ظاهرة في الشيخ ’، تجنب فيها الكثير من المواقف المحرجة في أوساط الشباب وغير الشباب، كيف وهو شيخ الشباب، وعصرنا هذا ماج بكثير من الفتن والزوابع، ولا سيما في أوساط الشباب، فكان الشيخ الشاب طودًا شامخًا لم تهز له قناة.
3- علو الهمة: الهمة العالية خلق رفيع، يعشقه قلب الكريم، وتتطلع إليه النفس الكبيرة، والمرء يعلو قدره بحسب نصيبه من علو الهمة.
والهمة العالية لا تزال بصاحبها مستمسكًا بحبال الترقي صعدًا في مراتب الكمال، منزجرًا عن مواقف الذل والرضا بالدون.
والهمة من الهم، وهو مبدأ الإرادة، ولكن أهل الحكمة والأدب خصوا الهمة بنهاية الإرادة، فالهم مبدؤها، والهمة نهايتها، وعلو الهمة في حقيقته هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وطلب المراتب السامية، وعدم الاكتفاء بأوساط الأمور، والتضحية بما يملك، وبذل ما يمكن من غير امتنان ولا اعتداد، وإذا عظم المطلوب قل المساعد، وطرق العلا قليلة الإيناس، والهمة العالية توقظ صاحبها، فتبدله بالخمول نباهة، وبالحطة رفعة، وبالتبعية العمياء شجاعةً وإقدامًا.
وإذا كانت هذه هي الهمة العالية، وهذا هو علو الهمة، فأحسب أن للشيخ أبي أنس ’ من ذلك حظًّا وافرًا، ويدرك ذلك فيه من خبره عن قرب، وسبر نهجه وسلوكه، وحينما أدون ذلك فإنما أدونه للأجيال، لتعلم أن علو الهمة لا يعني الكبر ولا غمط الناس، وأن الهدوء والسكينة والتواضع هما الرداء الجميل الفضفاض الذي تسكن فيه الهمة العالية.
4- الورع: وهو ترك ما يريب وتجنب ما يعيب، وإذا كان الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، فإن الورع ترك ما يضر في الآخرة، والأخذ بالأوثق، والتزام الأحوط، وترك ما لا بأس به، حذرًا مما به بأس.
ومن سبر حياة الشيخ ’ فهو مع صغر سنه، وطبيعة عصره، فقد أدرك عارفوه ومعاشروه، مظاهر الورع في سيرته، في لحظه ولفظه، وليس الورع النفرة من الناس والعبوس في المقابلة، ولكنه عقل وعلم وحكمة محكمة بالدين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ’: تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين, وشر الشرين, ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها, وتعطيل المفاسد وتقليلها, و إلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية، فقد يدع واجبات ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعًا، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الموسومين ببدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة العباد وأخذ علم العالم لما فيه من بدعة خفيفة، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع.
وأحسب أن الشيخ أبا أنس ’ قد فقه ذلك كله واستنبطه علمًا واستظهره سلوكًا.
5- قوة الإرادة: وهي تهيؤ القلب والعقل معًا بعزم للقيام بالعمل المرغوب فيه، أو الكف عما لا يرغب فيه، ويتجلى ذلك في جانب الفعل بالمبادرة بفعل كل خير وكل مستحسن قبل وجود الموانع، وسلوك مسلك الجد والحزم، والنظام في الأعمال، وفي جانب الكف يتجلى في نهي النفس عن الهوى، وكبح جماح النفس، و الحلم عند الغضب، وتلقي الأحداث بالصبر، وعدم الحزن على ما فات، يضم إلى ذلك كله: التفاؤل والبعد عن الضيق والتشاؤم.
فجميع ملكات الإنسان وقواه تكون في خمول حتى تحركها الإرادة وتبعثها، فقوة عقل المفكر وذكاء العامل وقوة العضلات، كل هذه القوى لا أثر لها في الحياة ما لم تدفعها قوة الإرادة، وكلها لا قيمة لها ما لم تحولها الإرادة إلى عمل.
والمرء ذو الإرادة القوية يقدم على ما قصد مهما كلفه من المشاق، ولا ترده العقبات، وهذه الإرادة بإذن الله هي سر النجاح، وهي عنون عظماء الرجال، فصاحبها يركب الصعب والذلول لتحقيق المطلوب، والأمر كله لله من قبل ومن بعد.
ومن عرف الشيخ ’ لمس فيه من ذلك جوانب كثيرة، وليست قوة الإرادة بالاستكبار أو التطلع إلى المناصب والمنافسة عليها، والشيخ ’ كان بعيدًا عن ذلك، ولكنها كانت تأتي إليه تجرجر أذيالها، وفي ظني أنه لو امتدت به الحياة لكان له معها شأن أي شأن، ولكن الله اختاره إلى ما عنده بمنه وفضله.
6- الاحتساب: هو ابتغاء الأجر من الله في كل ما يأتي العبد وما يذر، فيكون الاحتساب في عمل الطاعات، ويكون في الصبر على المكاره، كما أن هناك نوعين من الاحتساب دقيقين وهما:
- الاعتماد على الله معينًا وناصرًا.
- وحسن التوكل عليه، وهو من أدق أعمال القلوب.
والشيخ ’ فيه من الخير وسمت الصالحين ما نحسب أنه قد استبطن هذا المعنى، والله حسيبه ولا نزكيه على الله.
7- الإنصاف: هو العدل في المعاملة قولاً وفعلاً، والإنصاف عزيز، وهو بين أهل العلم أشد عزة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن المعلوم أنه إذا وجد الإنصاف قلت دوافع الحسد، وزالت أسباب النفرة بين أهل العلم، ولكنها قد تستعر حينما يصل الخلاف إلى درجة التضاد، ولا يكون ذلك إلا إذا دخل النفوس الهوى، ومن ابتغى الحق وتحراه وتجرد له فسوف يجد نفسه منصفًا عدلاً، وسوف تنعطف عليه القلوب محبة وألفة وتعاونًا.
ولا أعرف أن الشيخ ’ نازع أحدًا من أقرانه فضلاً عمن هو فوقه، بل كان يحب العلم ويتحرى الحق ويحرص على الفائدة أنى وجدها رحمه الله وأحسن إليه.
هذا إبراز لبعض صفات الشيخ وجوانب من خصائصه، والحق أن الشيخ ’ كان متميزًا بصفات كثيرة، ولا أزكيه على الله، وليس المقام مقام حصر ولا استقصاء، ولكنها أسطر وشذرات تغني إشاراتها عن كثير من عباراتها، والمقصود التذكير مع قصد التأسي والاعتبار والاقتداء.
فلله در الشيخ من معلم له تلاميذه ومحبوه، ولله دره من صاحب مؤلفات حسان، ما بين كتاب ورسالة ومحاضرة تشهد بعلو قدره ودقة فهمه، وبعد غوره، وسداد فكره.
ولله دره كم أجاد وأفاد وكشف عن دقائق الفقه، وأخرج من قواعده المثلى.
كم فات من الخير بوفاته، وكم من حسرة بفراقه.
وبعد: فلقد جفت الصحف، ورفعت الأقلام، وثبتت الأقدار في مستقرها، وبلغت الآجال مداها بعد أن قطعت الأزمنة ما قدر لها ربها.
وما كان لهذه الأقدار أن تتخلف عن مواقعها وقد قدرها الله بحكمته، وأجراها بإرادته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فأين المهرب وأين المفر، والحي لا تؤمن عليه الفتنة، فمن مات على السنة فهنيئًا، فقد حاز النعمة، واقتحم العقبة، والله هو الخليفة في كل باقٍ، والوارث لكل منتقل، وهو خير الوارثين.
وفي الختام فإن ما حصل على الشيخ من حزن وحسرة على الفراق، وما ظهر على الناس من أسى، لهو علامة خير، ودليل صلاح إن شاء الله من حب الأمة لعلمائها، والتفافها حولهم، وأهل العلم أهل لذلك فهم في الأرض كالنجوم في السماء، يهتدى بهم في الظلماء، ويقتدى بهم في العمياء، والحاجة لهم أشد من حاجة العطشى إلى الماء.
وإن من المخيف ما صح به الحديث أن من أشراط الساعة أن يرفع العلم وينتشر الجهل، وفسر ابن عباس ^ ذهاب العلم بذهاب العلماء.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يرحم الفقيد ويسكنه فسيح جناته، وألا يحرمنا أجره ولا يفتنا بعده، وأن يغفر لنا وله، كما أسأله سبحانه أن يصلح عقبه، وأن يعوضهم خيرًا، وأن يجعل العلم والخير والصلاح فيهم جيلاً بعد جيلٍ، وعقبًا بعد عقبٍ، إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وحرره
صالح بن عبدالله بن حميد
مكة المكرمة
15/12/1423هـ
([1]) وممن فقدوا في هذه السنوات المتقاربة (سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز)، (الشيخ محمد بن عثيمين)، (الشيخ عبدالرزاق عفيفي) (الشيخ صالح بن غصون)، (الشيخ محمد ناصر الدين الألباني)، (الشيخ عبدالله البسام)، (الشيخ حماد الأنصاري)، (الشيخ محمد بن جبير)، (الشيخ عبدالله بن زاحم)، (الشيخ عبدالمجيد بن حسن الجبرتي)، (الشيخ علي الطنطاوي)، (الشيخ مناع القطان)، (الشيخ مصطفى الزرقا)، (الشيخ محمد صفوت نور الدين)، رحمهم الله وأجزل مثوبتهم .