في الحث على خشية الله
الحمد لله الذي خشعت لعظمته قلوب العارفين، واستكانت لعزته نفوس المتقين، أحمده سبحانه وأشكره أنار بفضله دروب السالكين، وخلع عليهم جلباب الإيمان واليقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أتقى الخلق وأخشاهم لله رب العالمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته البررة الصادقين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله حق تقاته، فإنها زاد المؤمنين، ونهج الصالحين، وسبيل النجاة والفلاح يوم الدين، فاتقوا الله عباد الله، واتصفوا بصفات المتقين الأبرار الذين يخشون الله تعالى في الجهر والإسرار، فإن الخوف من الله عز وجل من صفات الكُمَّل، ونعوت الخلَّص من العباد، وصف الله تعالى به ملائكته المقربين، وأنبيائه ورسله المصطفين، وعباده المؤمنين، فقال عز شأنه عن ملائكته:(يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون)[النحل:50] وقال عن أنبيائه ورسله: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين)[الأنبياء:90] وقال في وصف عباده المؤمنين: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ،والذين هم بآيات ربهم يؤمنون، والذين هم بربهم لا يشركون،والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون)[المؤمنون:57-61].
فقد وصف الحق عز وجل في هذه الآيات أولياءه المقربـين بالجمع بين الإخلاص في العبودية والمسارعة إلى الطاعة، مع دوام الخوف والخشية، ولذا لما سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله e عن معنى قوله سبحانه: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة)[المؤمنون:60] فقالت: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: ( لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات). رواه الترمذي وغيره.
فكلما عظمت منـزلة الرب في نفس العبد ازداد لله تعالى عبودية وإنابة، وخوفاً منه وخشية، وذلك دليل صدق الإيمان، ورسوخ القدم في مقام الإحسان، فإن من كان بالله أعرف كان منه أخوف،كما قال عز وجل: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)[فاطر:28]، ولذا فحين بلغ رسول الهدى e كمال المعرفة بربه عز وجل، كان أتقى الخلق وأعظمَهم خشية لله، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (والله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية). رواه البخاري في صحيحه، وروى الترمذي وحسنه أن رسول الله e قال: (إني أرى ما لا ترون، وأسمع مالا تسمعون، أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا ومَلَك واضعٌ جبهته ساجداً لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفُرش، ولخرجتم إلى الصُّعُدات تجأرون إلى الله).
ولقد كان الصفوة الأخيار من سلف هذه الأمة من أشد العباد خوفاً، وأعظمِهم لله خشية، حتى كان أبو بكر رضي الله عنه يقول: " وددت لو أني شعرة في جنب عبد مؤمن " ولما حضرته الوفاة قال: "والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد" وكان في وجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطان أسودان من الدموع، ولما حضرته الوفاة وأثنى عليه الناس خيراً قال: "وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر"، وكان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى تبتل لحيته ويقول: "لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي،
فمبعث الخوف والخشية هو عظمة الرب في نفس العبد، ومعرفةُ ما يجب له تعالى من صفات الكمال، ونعوتِ الجمال والجلال، وإحاطةِ علمه بكل شيء، وبالغِ قدرته على كل شيء، ومعرفةُ العبد بعيوب نفسه، وتقصيرِها في جنب الله، مع ما بين يديها وأمامها من الأهوال والشدائد يوم القيامة، فيمتلئ القلب حينئذٍ خشيةً لله عز وجل ووجلاً، حتى يثمر في نفس صاحبه سمواً في القصد، ونبلاً في الغاية، واتجاهاً إلى الله تعالى بالعبادة والطاعة في شتى دروبها، ومختلفِ أنواعها، المفروضةِ منها والمسنونةِ، ومسارعةً إلى مغفرة الله ورحمته، ومسابقةً إلى فعل الخيرات، وحفظاً للنفس وصيانةً لها عن الزلات والخطيئات، وتورعاً عن الشبهات، وزهداً في هذه الحياة، وإقبالاً على الله تعالى في السراء والضراء، فمن كان كذلك أورثه الله عز وجل في الدار الآخرة الأمنَ والطمأنينة، وأحلَّ عليه رضوانه، وبوأه دار كرامته في ظلٍّ ظليلٍ، ونعيمٍ مقيمٍ، كما قال عز وجل: (ولمن خاف مقام ربه جنتان)[الرحمن:46] وقال عز شأنه: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى،فإن الجنة هي المأوى)[النازعات: 40-41] وقال سبحانه: (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجرٌ كبير)[الملك:12] وقال تعالى: (رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه )[البينة:8]، وروى ابن حبان وغيره بسند حسن عن النبيe أنه قال: قال الله عزلاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير" وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه شديد الخوف، كثير البكاء، وأعظم ما يشتد خوفه من طول الأمل، واتباع الهوى، وكان يقول: "إنَّ طول الأمل يُنسي الآخرة، واتباعَ الهوى يصد عن الحق" وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنه كثير البكاء حتى كان في أسفل عينيه مثل الشراك البالي من كثرة الدموع، وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، ويبكي حتى تجري دموعه على لحيته. وقال الحسن البصري رحمه الله: " إن المؤمنين قومٌ ذلَّت منهم والله الأسماع والأبصار والجوارح، حتى يحسبهم الجاهل مرضى، وإنهم والله الأصحاء، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمُهم بالآخرة، أما والله ما أحزنهم ما أحزن الناس، ولا تعاظم في قلوبهم شيءٌ طلبوا به الجنة، إنه من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، ومن لم ير لله عليه نعمةً في غير مطعمٍ أو مشربٍ، فقد قلَّ علمه وحضر عذابه".
وإن هذا الجزاء الأوفى من الرب جل وعلا، ليحمل ذوي الألباب والنهى على العمل بأسباب الخشية والخوف من الله تعالى. وجل: (وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمْنَيْن، إن أمِنَنِي في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمَّنته يوم القيامة).
غير أن من عظيم الأسى ما يُرى في الكثيرين منا من ضعف الخشية من الرب جل جلاله، والغفلةِ عما يجب له من الإجلال والتعظيم، في مظاهر مألوفة في كثير من بلاد الإسلام ومجتمعاتِ المسلمين، من إهمالٍ لشعائر الملة، وفرائض الدين، وفي طليعتها الصلاة التي هي عماد الدين، وتركِ الحكم بما أنزل الله تعالى في كثير من بلاد الإسلام، وضعفِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والزهدِ في العلوم الشرعية، والاستخفافِ بها، والتنقصِ لأهل العلم والصلاح، والاستطالةِ في أعراض عباد الله بالغيبة والنميمة، واتباعِ الأهواء والشهوات، وما يشاهد من اقترافٍ لكبائر الذنوب، كالتعامل بالربا، والتحايلِ على أكل أموال الناس بالباطل، وشربِ الخمور والمسكرات، وتعاطي المخدرات، وارتكابِ الفواحش والموبقات، وفشوِّ المنكرات ورذائل الأخلاق، وخلعِ جلباب الحشمة والحياء، والتبرجِ والسفورِ في النساء، وارتفاعِ أصوات المعازف والمزامير، والمجاهرةِ بالفسوق والعصيان، والدعوةِ إلى ذلك دون خوفٍ من الله، ولا حياءٍ من عباد الله، وإضاعةِ الأوقات في اللهو والباطل من مطالعات ومشاهدات تصدُّ عن ذكر الله وطاعته، وتضعف الديانة والمروءة، وتدعوا للتحلل من الفضيلة، واستغلالِ البعض لأوقات الإجازة بالسفر إلى بلاد الكفر والضلال، لمقاصد سيئة، ومآرب محرمة، رغم ما يجلب ذلك عليهم وعلى مجتمعاتهم من مفاسد وأضرار عظمى، وغير ذلك من ضروب الغفلة عن الله، وصنوفِ الإعراض عن طاعة الله، مردُّ ذلك كله ومنشؤه: عدم إجلال الله تعالى، وضعفُ خشيته في القلوب، وقلةُ خوفه في النفوس لدى الكثيرين من أمة الإسلام إلا من رحم الله وقليل ما هم.
ولقد كان رسول الله e وهو في ذلك المجتمع الطاهر الذي لم تر البشرية له نظيراً في الصلاح والتقى إذا رأى الغيم تغير لونه، وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت السماء سُرِّيَ عنه، فقالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية ؟ فقال: (يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عُذِّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: هذا عارضٌ ممطرنا) أخرجاه في الصحيحين.أفنحن يا عباد الله على الرغم مما نحن عليه من تقصير عظيم في جنب الله في مأمن من مكر الله بنا، وحلولِ عقابه علينا، أفلا نزدجر ونتعظ بقوارع التنـزيل ومواعظه، فقد قال عز وجل: ( أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون، أوَ أمِنَ أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون،أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون)[الأعراف97-99].
فاتقوا الله عباد الله، واقدروه تعالى حقَّ قدره، واخشوه حقَّ خشيته، تنالوا سعادة الدنيا وعزَّ الآخرة، فما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ) [لقمان:33].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله الذي ظهر لأوليائه بنعوت جلاله، وأنار قلوب أصفيائه بمشاهدة صفات كماله، أحمده سبحانه وأشكره على عظيم نواله، وسابغ عطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في صفاته وأفعاله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد أنبيائه وصفوة خليقته، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حق تقاته، واخشوه حق خشيته، وتذكروا أن خشية الحق عز وجل والخوفَ منه ليست بدعوى تقال في الألسن، ولا بعَبَراتٍ تُسكب من العيون، وتجري على الخدود، مع غفلةِ القلب وسهوِه، وإنما الخوف الصادق ما أثمر صالح الأعمال، وكفَّ عن المعاصي والآثام، وحمل على الزهدِ في الدنيا، والإقبالِ على الآخرة، ولذا قال بعض السلف: "ليس الخائف من يبكي ويمسحُ الدموع، وإنما الخائف من ترك ما يقدر عليه"، وقال بعض العلماء: "من ثمرات الخوف أنه يقمع الشهوات، ويكدِّر اللذات، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهةً، كما يصير العسل مكروهاً عند من يشتهيه إذا علم أن فيه سماً، فتحترق الشهوات بالخوف، وتتأدب الجوارح، ويذل القلب ويستكين، ويفارقه الكبر والحقد والحسد، ويصير مستوعب الهمِّ لخوفه، والنظرِ في خطر عاقبته، فلا يتفرغ لغيره، ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة، والضِّنةُ بالأنفاس واللحظات، ومؤاخذةُ النفس في الخطرات والخطوات والكلمات، فقوة المراقبة والمحاسبة بحسب قوة الخوف، وقوةُ الخوف بحسب قوة المعرفة بجلال الله تعالى وصفاته، وبعيوب النفس، وما بين يديها من الأخطار والأهوال، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: ( من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنـزل، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة).
المرفق | الحجم |
---|---|
16في الحث على خشية الله.docx | 44.72 كيلوبايت |