الصدق وأثره في المجتمع
الحمد لله رب العالمين، يهدي من يشاء بفضله إلى صراط مستقيم، أحمده سبحانه وأشكره، أمر بالصدق، ورفع شأن الصادقين، وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه البررة الصادقين، ومن سار على هديهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ربكم لعلكم تفلحون، واستمسكوا بدينكم، وأفرحوا بهدايتكم إليه، فلقد تكفل الله عز وجل لمن تمسك به بالسعادة في الدنيا، والفوزِ بالنعيم المقيم في الأخرى.
عباد الله: إن دين الإسلام دين فضائل كريمة، وشمائل حميدة، ومُثُلٍ عالية، وأخلاق نبيلة، وإن من أعظم تلك الفضائل مكانةً في دين الإسلام، وآكدها وجوباً، وأعمِّها نفعاً: التحليَ بالصدق، والاتصافَ به قولاً وعملاً، وظاهراً وباطناً، فإن الصدق أيها المؤمنون من أكرم الصفات الإنسانية، وأرقى الفضائل الأخلاقية، ومن أهمِّ الأسس في بناء المجتمع، وسعادة الأمة، إذ به يرتبط كل شأن من شؤون الحياة، وتتعلق به كل مصلحة من مصالح الناس، ولذا أمر الله عز وجل بالتحلي به، وجعله خُلُقاً لأشرف خلقه، وحملة وحيه، وأمنائه على شرعه، فكان رسول الهدى eالمثل الأعلى للبشرية في الصدق قولاً وعملاً، وكذلك كان الأنبياء والمرسلون من قبله، كما قال سبحانه عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً)[مريم: 41].
وقال سبحانه عن إسماعيل عليه الصلاة والسلام: (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً)[مريم: 54].
وقال عز وجل عن إدريس عليه الصلاة والسلام: (واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً)[مريم: 56].
وحينما عاش المجتمع الإسلامي الأول في ظل الصدق، واتصف به أفراده، وسرت تلك الفضيلة في نفوسهم، وظهر أثرها في علاقاتهم ومعاملاتهم، وفي سائر شؤونهم الخاصة والعامة ساد الأمن والاستقرار ربوعهم، وعمَّ الأمن والإخاء أرجاءهم.
ألا وإن ديننا الحنيف ليوجب على المسلم أن يتصف بالصدق في عبادته وطاعته لربه سبحانه، وفي معاملاته لعباد الله، وأن يلتزم به قولاً وعملاً، ويسيرَ على هديه ظاهراً وباطناً، وقد قال عز وجل موجهاً عباده المؤمنين إلى هذا المنهج القويم: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)[التوبة:119]، فحقيقة الصدق في القول يكون بالإخبار عن الشيء بالأمر الواقع دون زيادة أو نقصان، أو تحريف أو تبديل، أو تلبيس أو تدليس.
أما الصدق في الأفعال فإنما يتحقق بمطابقة ظاهر الإنسان لباطنه، وفعلِه لقوله، وقد قال عز وجل منكراً على من خالف ذلك، ومندداً به: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون،كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)[الصف: 2-3].
عباد الله: إن الاتصاف بالصدق واجبٌ على كل مسلم، إلا أن أهميته تزداد، وشأنَه يعظم، في حق القدوة من الناس، فالعلماء الربانيون الذين هم ورثة الأنبياء، أمناء في تبليغ الرسالة الإلهية، ونشرِ الدعوة المحمدية بكل صدق وأمانة، يخلصون لله تعالى في دعوتهم، ويتجردون عن كل غرض أو هوى، بأن لا يكون لهم قصدٌ إلا بيانَ الحق، ونفعَ الخلق.
أما قادة الأمة الأمناء الصادقون فهم الذين يسعون للإصلاح، وتطبيق شرع الله على عباد الله، وتنفيذ أحكامه، ليحققوا للشعوب الخير والفلاح، والأمن والاطمئنان، ويرفعوا شأن الأمة، ويُعلوا مكانتها بين الأمم.
وإن على أرباب الفكر وحملةِ الأقلام، ورجالِ التربية والتعليم، والصحافةِ والإعلام، أن يكونوا مثالاً للصدق والالتزام به في الأقوال والأعمال، فلا يُقدِّموا للأمة إلا ما يتفق مع العقيدة الإسلامية الصحيحة، والفطر السوية السليمة، ونقل الأخبار النافعة بكل صدق وواقعية.
وعلى التجار والموظفين وأصحاب المهن أن يتحروا الصدق فيما يؤدونه من أعمال، وأن يبتعدوا عن الغش والخداع، والكذب والتدليس، والتسويف والمماطلة فيما التزموه من أعمال.
وإن على كل فرد منا أيها المسلمون أن يتصف بالصدق في عباداته لربه سبحانه، وأن يظهر أثر ذلك في سلوكه وتعامله مع عباد الله، فإن ذلك من عوامل الفلاح في المجتمع، والرقي في الأمم، ومن أسباب السعادة في الدنيا، والنجاة في الأخرى، وقد قال عليه الصلاة والسلام موجهاً الأمة إلى وجوب الاتصاف بالصدق والعمل به، وبيان حسن عاقبته: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقاً). رواه البخاري ومسلم والترمذي واللفظ له.
أيها المسلمون: حين أمر الإسلام بالصدق عمل أيضاً على القضاء على كل ما ينافيه مما يكون سبباً في زعزعة الثقة بين الناس، وحصول البغضاء والعدوات فيما بينهم، فنهى عن الكذب والافتراء، وإشاعة الأقوال المختَلَقة، والأخبارِ المغرضة، ضد فرد من المسلمين، أو مجتمعٍ من مجتمعاتهم، فإن الكذب من خلال الشر، ومساوئ الأخلاق، يدل على مهانة النفس، ودناءة الهمة، وسقوط المنـزلة، ولذا قال بعض أهل الحكمة: "لم يكذب أحد قط إلا لصغر نفسه عنده"، وما ذاك إلا لأنه جماع كل شر، ومنبع كل ضر لسوء عواقبه، وقبح نتائجه، إذ به تنتشر النميمة والبغضاء، وتعم العداوة والشحناء، ومتى انتشرت العداوات بين الناس، لم يبق أمن ولا اطمئنان، ولا ثقة ولا استقرار، ولذا أشهر الإسلام على الكذب الحربَ العوان، وأخرج المتصف به من دائرة أهل الإيمان، فقال عز شأنه:( إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون)[النحل:105]، وقال عليه الصلاة والسلام محذراً الأمة من الكذب ومبيناً سوء عاقبته: (إياكم و الكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذاباً). نعوذ بالله من الكذب ما أسوأه! فكم ضاعت بسببه من حقوق، وانتُهكت من حرمات، وكم كان سبباً في قطع عرى المودة والإخاء بين الجماعات، وكم حصل بسبب إشاعة باطلة، وقول مختَلَق، فرقةٌ بين صديقين متآلفين، أو زوجين متصافيين، بل وكم ثار بسبب ذلك عدوات وبغضاء، جرَّت إلى حروب طاحنة، وعدوات مستحكمة.
والعجب يا عباد الله من تساهل البعض منا، حين يقبلون على سماع الإشاعات ويتقبلونها، وكأنها حقائق ثابتة لا يتطرق إليها الشك، بل وربما ساعدوا على بثها وإشاعتها، دون فحص وتثبت عن أصل هذه المقولة، أو تلك الإشاعة، ولو سئل أحدهم عن أصل ذلك لأجاب بأن الناس قالوا كذا وزعموا كذا، وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن رسول الله e في التحذير من هذا المسلك أنه قال: (بئس مطية الرجل زعموا).
ذلك أن صاحب الغرض والهوى لا يجد متنفساً لما في صدره من الشرور إلا تلفيقَ الأكاذيب، ونشرَ الأباطيل، والتلبيسَ والتدليسَ، يخلط الصدق بالكذب، والحق بالباطل، ويعمل على ترويج الأخبار المغرضة تحت ستار: زعموا وقالوا، متنصلاً في ظنه من مسؤولية ذلك، وهيهات أن يسلم من جريرة الفرية، وإشاعة ما فيه بلبلةٌ للرأي العام، ومفسدةٌ للمجتمع، ولقد صح عن رسول الله e أنه قال: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع). رواه مسلم في صحيحه.
وإن مما أرشد الله عز وجل عباده المؤمنين إليه: التثبت عند سماع الأخبار، ولا سيما إذا كانت تحمل في طياتها ذماً أو قدحاً في فرد أو مجتمع، فقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)[الحجرات: 6]. وروي عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "أيها الناس من عرف من أخيه وثيقة دين، وسداد طريق، فلا يسمعنَّ فيه أقاويل الرجال، أما إنه قد يرمي الرامي، وتخطئ السهام، ويحيك الكلام، وباطل ذلك يبور والله سميع شهيد".
فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون والتزموا الصدق، وتحلوا به في أقوالكم وأعمالكم، لتزكوا بذلك نفوسكم وتصلح أحوالكم، ويتحققَ لكم الخير والفلاح، وتفوزوا بمغفرة من الله ورضوان، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً،يصلحْ لكم أعمالكم ويغفرْ لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)[الأحزاب: 70-71].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونثني عليه الخير كلَّه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق تقاته، وتذكروا أن من أشدِّ أنواع الكذب قبحاً، وأسوئِها شراً، وأعظمِها ضرراً في المجتمع: اختلاقَ الكذب على الغير، وإلصاقَ التهم الباطلة بهم، إساءةً إليهم، وتشويهاً لسمعتهم، يحمل على ذلك خلاف معهم، أو عداء فيما بينهم، وربما لا يكون شيء من ذلك، وإنما هو البغي والعدوان والحسد، نتيجة ضعف الإيمان، ولقد حذر الإسلام من هذا الصنيع، وجاء الوعيد الشديد، والتهديد البليغ لمرتكب ذلك على لسان رسول الهدى e في الحديث الذي رواه الطبراني وغيره بإسناد جيد عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي e أنه قال: (من ذكر امرأً بشيء ليس فيه ليعيبه به، حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه).
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا من ذلك الحذر الشديد، وتذكروا أن عليكم من الله رقيباً يحصي كل ما تقولون وتفعلون، فقد قال الله عز وجل: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيبٌ عتيدٌ)[ق:18].
المرفق | الحجم |
---|---|
24الصدق وأثره في المجتمع.docx | 35.34 كيلوبايت |