في الصبر على البلاء
الحمد لله مثيب الطائعين، ومجزل العطاء للصابرين، أحمده سبحانه وأشكره على فضله العظيم، وخيره العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين، وسيد الصابرين، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه البررة الصادقين، والحنفاء الصابرين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله حق التقوى، فإن من اتقاه سبحانه جعل له من كل همِّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، وهيأ له من أمره رشداً (ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا)[الطلاق:4].
وهكذا حال الحياة، وتصريف الأيام على الدوام، ابتلاء من الله تعالى للعباد (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم)[محمد:31].عباد الله: إن الله عز وجل بحكمته البالغة، وإرادته النافذة، قد جعل هذه الحياة الدنيا داراً للابتلاء والامتحان، وموطناً للأكدار والأحزان، لا يدوم لأحد فيها هناء، ولا يستمر له فيها سرور، فإن سُرَّ منها يوماً، ساءته أياماً، وإن أقبلت إليه، فسرعان ما تدبر عنه، والأيام دول، فيوم لنا، ويوم علينا، ويوم نُساء، ويومٌ نُسَرّ (وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين)[آل عمران: 140].
وإن من دلائل صدق إيمان العبد أن مصائب الزمان، وفجائع الأيام، لا تزيده إلا ثقة بالله ويقيناً؛ لعلمه أن قضاء الله تعالى نافذ، وقَدَره نازل، وأن ما شاء الله كائن لا محالة، فيحمله ذلك على التحلي بالصبر عند الشدائد، والتجلدِ عند الخطوب، فإن الصبر من أعظم مقامات الدين، وأجلِّ منازل السالكين، وهو زاد المؤمنين، وعماد المتقين، ونهج الصالحين، وملاذ الخائفين.
به تستنـزل الرحمات، ويستمد العون، ويستلهم النصر، ولذا أمر به القرآن، وأشاد بأهله في تسعين موضعاً، ترغيباً في التحلي به، وبياناً لجليل فضله، وعظيم ثوابه، يقول عز وجل: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)[الزمر:10]، وقال عز شأنه في بيان معيته للصابرين بالحفظ والتأييد: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) [البقرة: 153]، وأبان الحق عز وجل أن التحلي بالصبر من أسباب الفلاح في الدنيا والآخرة فقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)[آل عمران:200]، ونوه رسول الهدى e بفضل الصبر بقوله: (ما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر) وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في بيان مكانة الصبر: "إن الصبر من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد، وإنه لا إيمان لمن لا صبر له"، وما هذه الفضائل المترتبة على الصبر إلا لأنه يحمل صاحبه على أداء الواجبات وفعل العبادات، والكف عن المعاصي والآثام، ويبعث على الرضى والتسليم بمُرِّ القضاء، وهذه أركان الصبر الثلاثة التي متى حققها العبد، فقد صدق يقينه، وكمل إيمانه، وعظم قدره عند ربه (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)[فصلت:35]، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: "فمدار الصبر على هذه الأركان الثلاثة، فإذا قام به العبد كما ينبغي، انقلبت المحنة في حقه منحة، واستحالت البلية عطية، وصار المكروه محبوباً، فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتله ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته، فإن لله تعالى على العبد عبودية في الضراء، كما له عليه عبودية في السراء، وإن له عليه عبودية فيما يكره، كما له عليه عبودية فيما يحب، وأكثر الخلق إنما يعطون العبودية فيما يحبون، والشأن في إعطاء العبودية في المكاره، ففيه تفاوت مراتب العباد، وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى، فمن كان عبداً لله في الحالين، قائماً بحقه في المكروه والمحبوب، فذلك الذي يتناوله قوله تعالى: (أليس الله بكاف عبده)[الزمر:36]".
وإنَّ سنة الله في خلقه أن لا يسلم أحد في هذه الحياة من مصائب ورزايا تؤلمه وتحزنه، وتكدر عليه أيام أنسه وسروره، وتعكر عليه صفو حياته، من أمراض مستديمة، أو علل مستعصية، أو فقد لحبيب وقريب، أو خسارة في تجارة، أو إخفاق في عمل أو دراسة، وغير ذلك من حوادث الأيام التي لا يسلم منها أي إنسان، فيظل جراء ذلك يعاني آلاماً، ويتجرع غصصاً، ويكابد أحزاناً. والمرء بحكم بشريته وطبعه ملول عجول، يستعجل الأمور، ويضجر بالمقدور، ويود أن يبقى سليماً معافى، دون بلوى تصيبه، أو محنة تمحصه، أو شدة تصهره، وليس ذلك بكائن في دار البلاء، وهيهات أن يسلم من ذلك أحد، إذ لم يسلم منه أنبياء الله ورسله، وصفوته من خلقه، فلقد أصابهم من البلاء، وحلَّ بهم من البأساء والضراء، ما لا يقدر على تحمله سواهم من البشر. ففي الحديث عند الإمام أحمد وابن ماجه أن رسول الله e سئل: أي الناس أشد بلاء؟ قال: (الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة).
وإن في هذا الفضل العظيم من الرب الكريم، لأعظم تسلية للمؤمن عند المصائب والشدائد.وإن شأن المسلم الواعي أن يوطن نفسه على التحلي بالصبر عند البلاء، والتجلد أمام الخطوب، لعلمه بأن ما قدر الله تعالى عليه واقع لا محالة، لأنه مما جرى به القلم، وقُيِّد في الأزل، فيرضى ويسلم، حتى يورثه ذلك طمأنينة في القلب، وسكينة في النفس، كما قال عز وجل: (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم) [التغابن:11]، وإن مما يسلي المؤمن عند اشتداد البلاء، ويهون عليه مرارة المصيبة واللأواء، تذكُّرَه بما تؤول إليه حال الصابرين من عواقب حميدة في هذه الحياة، وما أعد الله لهم في الآخرة من عظيم الجزاء لهو خير وأبقى، فقد قال تعالى: (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)[يوسف:90]، وفي الحديث عند الترمذي وغيره أن رسول الله e قال: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السُّخط)، وفي الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله e قال: (ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته، وحطت عنه ذنوبه، كما تحط الشجرةُ ورقها) وروى البخاري في صحيحه أن رسول الله e قال: ( يقول الله تعالى ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة).
فاتقوا الله عباد الله ولتتصفوا بصفات الصابرين الأبرار، يعظم الله تعالى لكم الأجر والثواب، فما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)[البقرة:155-157].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أول الخطبة الثانية
الحمد لله المحمود على كل حال، المتصرف بخلقه على كل الأحوال، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، وهدى للناس أجمعين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى لعلكم تفلحون، وتدرعوا بالصبر على أقدار الله المؤلمة لعلكم تهتدون، وتذكروا ما أصاب رسل الله من مصائب عظمى، قصَّها الحق تعالى في كتابه الكريم، لتكون عبرة للمؤمنين، وتسلية للمصابين.
وإن مما قصَّه عز وجل من ذلك: ما ابتلى به نبيَّه يعقوب عليه الصلاة والسلام من فراق يوسف ثم أخيه، فتدرع بالصبر الجميل على ما أصابه، حتى جمع الله شمله بابنيه، وأقر عينه بحبيبيه، بعد الشدة وطول الحزن والفرقة، كما ابتلى الله تعالى نبيه أيوب عليه الصلاة والسلام بأنواع من البلاء في أهله وولده ونفسه، حتى لم يبق منه عضو سليم، سوى قلبه ولسانه، ثم استجاب الله دعاءه، وكشف عنه البلاء، وعوضه خيراً مما ذهب عليه، وأضحى صبره مضرب المثل في الحاضر والماضي، يقول عز وجل: (وأيوب إذا نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمينفاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين)[الأنبياء: 83-84].
كما صبر سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه على ما لا يحتمله بشر، جراء ما أصابه من فقد لبعض أحبته وأصفيائه، وما لحقه من أذى المشركين، واليهود والمنافقين، حتى كان عاقبة صبره النصرَ المبين، والعزَّ والتمكين، وهكذا تكون عاقبة الصبر على الدوام حميدة، فعودوا أنفسكم أيها المؤمنون الصبرَ عند الملمات، ولتكونوا ممن وصفهم الحق سبحانه بقوله: (والصابرين في البأساء والضـراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون )[البقرة 177].
المرفق | الحجم |
---|---|
25في الصبر على البلاء.docx | 41.8 كيلوبايت |